واع-الحقيقة
كتب: صلاح حسن من بغداد
في مسرحية صومائيل بيكت «بانتظار غودو» ترد جملة بسيطة يمكننا الاستشهاد بها لوصف المناخ العام في العراق اليوم، هذه الجملة تقول: «هذا الغبار لن ينتهي في زماننا». والغبار هنا كناية عن التصحر الذي يشهده العراق جراء قطع المياه الذي تمارسه جارات العراق بلا استثناء عن انهار العراق الثلاثة الكبرى دجلة والفرات والكارون. ليس التصحر وحده ما يثير الغبار فهناك الكثير من الأشياء التي تثيره، آخرها غبار الإعمار كما يتندر بعض العراقيين بصدد هذا الموضوع. المطر وحده يستطيع أن يزيل هذا الغبار الرهيب عن الوجوه والأشياء، لكن المطر لم يعد يتساقط على أرض السواد، والصلوات التي يرفعها العراقيون من أجله لم تعد تصل إلى السماء. المرة الوحيدة التي تساقطت فيها الأمطار على هذا البلد المنكوب كانت قبل شهر لكنها بدلاً من أن تزيل الغبار أو تقلل منه حولته إلى وحول بسبب انعدام خدمات المجاري فتحول إلى طين ومن ثم عاد غباراً مرة أخرى. هناك نوع آخر من الغبار ذاك الذي تخلفه السيارات المفخخة على شكل غازات ورماد وهباب بالإضافة إلى عوادم السيارات القديمة، ما يشكل عدواً إضافياً للناس العزل ويقتلهم أو يضيف عللاً إضافية إلى عللهم التي لا تنتهي كما يبدو.
معظم العراقيين يرتدون الملابس السود في الأشهر الحرم مثل عاشوراء ويطيلون لحاهم ما يجعلها كثة ومغبرة ومريضة خصوصاً بعد مهرجانات اللطم والتطبير (ضرب الرأس بالسكين) التي تدوم أكثر من ثلاثين يوماً طول البلاد وعرضها، تديمها ثقافة الاستشهاد التي يحرص بعض رجال الدين على نشرها في شتى السبل.
في مقابل ذلك يظهر رجل دين شيعي وحيد هو المفكر السيد أحمد القبانجي في ندوات قليلة يدين فيها مهرجانات جلد الذات علناً وبقوة غير مسبوقة، يتلقى بعد كل ندوة تهديداً بالقتل من جهات مختلفة، لكنه لا يتراجع حتى انه أقام ندوة في اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين ودان بطريقة واضحة ومعبرة الحملة التي يشنها مجلس محافظة بغداد على الثقافة والمثقفين العراقيين بعد غلق الأندية الاجتماعية في بغداد بحجة تناول الكحول في شهر عاشوراء. القبانجي تحدث عن مفهوم الحرية في الإسلام بطريقة حديثة
يندر أن تجدها عند رجل دين معمم وسيد في الوقت نفسه، تحدث كما كان يتحدث نصر حامد أبو زيد أو محمد أركون وهو الوحيد من جميع رجال الدين اليوم الذي يستشهد خلال حديثه بسارتر وهيغل وفلاسفة الغرب الإنسانيين.
قد تكون هذه المرة الأولى التي يشارك فيها شعراء عراقيون من كتاب قصيدة النثر في مهرجان رسمي في مدينة النجف المقدسة والمغلقة على الشعر العمودي المكتوب خصيصاً عن استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، لا بل إن الأكثر من ذلك هو أن يشارك شعراء معممون وسادة في المهرجان بقصائد نثر ذات طابع مغاير تماماً عن المعتاد مثل الشاعر ماجد الشرع الذي أصدر أكثر من ديوانين تنحاز كلياً إلى الحداثة وقصيدة النثر بالتحديد.
هذا المهرجان الذي أشرف عليه الشاعر فارس حرام رئيس اتحاد الأدباء والكتاب في النجف ورعته لجنة المنظمات غير الحكومية للنجف عاصمة للثقافة الإسلامية يعد أول مهرجان تحضر فيه كل الأشكال الشعرية الموجودة على الساحة الثقافية ويشارك فيه شعراء من جميع مدن العراق. وقد كانت حصة الأسد لشعراء مدينة الأنبار حيث شارك منها ستة شعراء من الفلوجة والأنبار وقد حصلت للشاعرة إخلاص الطائي القادمة من الفلوجة حكاية ذات مغزى حين ذهبت لتشتري ملابس لابنتها التي ترافقها.
في الفندق الذي أقام فيه ضيوف مهرجان ملتقى الشعر في مدينة النجف يلاحظ المرء حالة غير مسبوقة في الفنادق العراقية هي الكتابة الفارسية على مرافق الفندق! ليس هذا فحسب فهناك موظف في الاستقبال يتحدث الفارسية وكنا نظن إن ذلك يوجد في المدن المقدسة مثل كربلاء والنجف فقط لكننا فوجئنا بهذه الكتابة في فنادق بغداد أيضاً والسبب في ذلك هو كثرة السياح الإيرانيين الذين يزورون العراق في هذا الشهر. الغريب إن هؤلاء السياح يدخلون بلا تأشيرة في حين يتحتم على العراقي أن يدفع لكي يدخل إلى إيران، وقد روى سائق شاحنة لنقل النفط المكرر في إيران انه كلما ذهب لتحميل النفط يرشقه الإيرانيون بالحجارة لأنهم يكرهون العراقيين بسبب حرب الثماني سنوات.
المضحك والمبكي إن معبر «الشلامجة» الحدودي بين العراق وإيران في البصرة يحصل على الكهرباء من إيران ولكن عندما يريد الإيرانيون إدخال أسلحة إلى العراق يقومون بقطع الكهرباء حتى لا يكتشف حرس الحدود هذه الأسلحة لأن الأجهزة التي تكشف هذه المواد تعمل على الكهرباء. قبل أسبوعين شك أحد الحراس بسيارة إيرانية دخلت من هذا المعبر وهي محملة بأشياء معدنية لصناعة المتفجرات، ولأن الكهرباء مقطوعة فقد أخبر إحدى نقاط التفتيش من أجل تفتيش السيارة وكانت بالفعل تحمل أسلحة أيضاً. بعض المسؤولين الذين كانوا يعيشون في إيران كما يروي أحد الحراس يطلبون من الحــراس إدخال بعض السيارات القادمة من إيران من دون تفتيش بحجة وجــود ديبلوماسيين فيها ويظهر في ما بعد إنـها محملة بالأسلحة أو المخدرات.
شعارات في الشوارع
لافتات كبيرة معلقة في أكبر شوارع بغداد تندد باتحاد الأدباء وتدعو المرجعيات إلى إصدار فتاوى لغلق الأندية الاجتماعية في جميع مدن العراق لأن هذا الاتحاد هو عبارة عن ثلة من المدمنين والإرهابيين ولا يمكن السكوت عن ذلك. عضو مجلس محافظة بغداد الزيدي ظهر على شاشات الفضائيات وكال هو الآخر حزمة من الكلام غير المرتب في حق الأدباء والمثقفين ونعتهم بكلام يصعب أن يقال في هؤلاء الناس من على المنابر الإعلامية. خراب آخر يصيب الثقافة العراقية بعد إن تلقت صفعة جديدة بتعيين وزير دفاع سابق ليديرها، ويبدو أن هذه الثقافة لا يمكن بناءها إلا من طريق الشرطة أو العسكر وحتى الإرهابيين. هناك مخطط واضح لمسخ هذه الثقافة التي حاول الديكتاتور خلال أربعين سنة تفتيتها وقتل مبدعيها، لكن هذه المرة سيكفر الأدباء والمثقفون وبالتالي سيكون قتلهم على أيدي الرعاع في الشوارع وأمام أنظار الجميع والجريمة واضحة ولا تحتاج حتى إلى الذهاب إلى المحكمة.
المثقفون أقاموا الدنيا ولم يقعدوها وقاموا هم والكثير من مؤسسات المجتمع المدني، ترعاهم جريدة «المدى» بعقد لقاءات متلفزة وندوات عن الحقوق المدنية التي يكفلها الدستور وفندوا الحجج الواهية التي جاء بها مجلس محافظة بغداد وتساءلوا عن هوية الدولة هل هي مدنية أم دينية. وكان رئيس اتحاد الأدباء فاضل ثامر واضحاً حين قال إننا لا نريد دولة طالبانية ولا خمينية ونحن نعيش اليوم حالة من الديموقراطية لا يمكن معها فرض شروط على الناس لا من رجال الدين ولا من غيرهم فهناك دستور وقانون يحمي حقوق المواطنين. ملاحظة جديرة بالاهتمام تقفز إلى الذهن حينما نعرف إن الحكومة الجديدة بكل وزرائها لم تختر وزيراً واحداً من سكان بغداد وإقصاء النساء من الحكومة والبرلمان. رئيس الوزراء نوري المالكي قال بنفسه إن هذه الحكومة ضعيفة والبرلمان وافق عليها لأنها أفضل من لا شيء.
قد تتحول مدينة بغداد إلى ريف كبير إذا بقيت هذه القيم تحكم المجتمع، لأن الأصوليين الجدد يرفضون الحداثة والسياسيين المستجدين الذين جاءت بهم المحاصصة لا يفهمون طبيعة المجتمع الذي يحكمونه، أما المباني الضخمة والبيوت الفخمة التي تشيد اليوم في العراق والتي يطلقون عليها تسمية «دبل فاليوم» فهي كبيرة وذات أبهة لكنها بشعة ووحشية ومن الواضح إن بناتها من أصحاب الثراء السريع الذي حدث بعد الفوضى التي يبدو إنها ستستمر وقتاً طويلاً.
يندهش العراقيون القادمون لزيارة بلدهم بعد هذه الغربة الطويلة من اللغة التي يسمعونها في الشارع ويتأملون للحظات لكي يفكروا بالكلام الذي يسمعونه خشية أن يكونوا قد نسوا شيئاً من لغتهم الجميلة، لكن الغموض يزداد كلما طالت إقامتهم هناك لأن الحوار يتراجع مع مرور الوقت. يسأل القادم أقاربه عن الهواتف النقالة مثلاً من أجل أن يقتني واحداً للتواصل فيشيرون عليه أن يشتري «ليلى علوي» أو «علاوي» أو «صرصور» الرخيص.
وعندما يفتح فمه متعجباً من التسمية يقولون له إن «علاوي» تلفون ضخم وقوي، أما «ليلى علوي» فهو تلفون جميل ومنتفخ قليلاً. أما كلمات مثل «قفاصة» و«مضروب بوري» و«غلفوه» فتسمعها وترد في كلامهم بين جملة وجملة. آخر هذه المفردات المتداولة الآن كلمة «غلفوه « وتعني سجنوه ولا نعرف ما هي أوجه الشبه بين هاتين المفردتين، لكن المفردة «غلفوه» تنطوي على معنى آخر هو أن الشخص المسجون ربما لن يخرج من السجن إلا جثة مغلفة أي ملفوفة بكفن. تورية تليق بما حدث لهذا البلد من مآس تدعو إلى الضحك والسخرية لأن المنطق لم يعد مفيداً.
في الشارع أيضاً يرى المرء عجلات لم تكن مستخدمة في العراق، ذهب العراقيون إلى لبنان وجلبوا معهم «الموتور» الصغير والكبير وذهبوا إلى سورية وجلبوا «الطرطورة» وسموها «الستوتة» تنعيماً لصخب الاسم. لم يأخذوا من عمان شيئاً سوى جلافة الطبع ومن تركيا تعلموا الأناقة والأبهة الزائفة. وعندما تذكر بيروت تحضر النظافة ويحضر الجمال متبوعاً بحسرات حارة.
تظهر الفضائيات العراقية يومياً عدداً من الإرهابيين الذين يقعون في قبضة رجال الأمن وهم يعترفون بالجرائم التي ارتكبوها والتي كانوا يريدون ارتكابها أثناء الإمساك بهم. وغالباً ما يكون بين الإرهابيين عرب من جنسيات مختلفة يتحفظ رجال الأمن من ذكر جنسياتهم لأسباب كثيرة أمنية وديبلوماسية وسياسية.
وهناك الكثير من الإرهابيين الذين صدرت بحقهم أحكام إعدام منذ سنوات لم تنفذ لأن المحكمة والقضاة الجدد لم يعتادوا على هذا العدد الكبير من أحكام الإعدام، ويرفض الكثير من القضاة توقيع أوامر الإعدام مع معرفتهم التامة بحجم الجرائم التي ارتكبها هؤلاء القتلة لأنهم غير معتادين عليها. طالباني رئيس الجمهورية الذي يفترض فيه أن يكون أول من يوقع على هذه الأحكام يرفض ويماطل من أجل عدم التوقيع عليها وغالباً ما تنفذ بعض الأوامر بلا توقيعه لأنه يكون خارج البلاد في مهام رسمية.
حتى هذه اللحظة لم تقع تفجيرات كبيرة أثناء زيارة مقام الإمام الحسين عليه السلام لوجود خطط استباقية وضعتها اللجان الأمنية وأحبطت من خلالها الكثير من الجرائم التي كان يعزم الإرهابيون إلى تنفيذها خصوصاً في المدن المقدسة في كربلاء والنجف. أما في بغداد فكانت هذه الخطط محكمة إلى درجة أن أية حادثة لم تقع لا في الكرادة ولا مدينة الصدر ولا الكاظمية، المدن الشيعية التي تقام فيها المواكب الحسينية. ففي الكرادة قام الشيعة بتأبين شهداء كنيسة سيدة النجاة بحفاوة بالغة تؤكد حجم الروابط بين الطوائف في العراق ورفعوا صور الشهداء المسيحيين إلى جانب صور الحسين لأن الشهادة لا تنقسم ويتساوى فيها القديس والمؤمن العادي. وفي الموصل وسامراء شارك رجال دين سنة في مواكب عزاء الشيعة، فهل سيشهد العراق مرحلة جديدة تختفي فيها الطائفية وتحل محلها ثقافة السلام في الأيام القريبة المقبلة.