'إن نص شفاهيات هو اعلان عن ضياعي، هذا كونسبت يعتمد الشفاهية وسياقات حكواتية. شيء يشبه المسرحية لكنه ليس كذلك، يشبه الرواية، لكنه لا يلتزم بشروط الرواية، لا أحب أن أسميه نصا مفتوحا، لأن هذا المصطلح مثقف وغير متواضع'.
هكذا يفتتح الكاتب العراقي المقيم في بلجيكا حازم كمال الدين روايته الأولى 'أورال - شفاهيات' التي صدرت عن دار النشر البلجيكية ( بيف كيك بابلشينك) باللغة الهولندية وتحت مفتتح بعنوان 'لا مفتتح' في كسر أولي لتوقعات القارئ، من جهة وربما لضمان عدم محاكمته للعمل على أسس أدبية معينة من جهة أخرى.
رواية 'أورال - شفاهيات' تتناول حياة السينمائي الشهير والمعارض لنظام صدام حسين ميثم ألبوذبّاح الذي يعيش مع عائلته في العراق، وتاريخ عائلته هو موضوع شهير لما لا نهاية من الحكايات الشفاهية والأقاويل المتناقلة جيلا بعد جيل، وفيها نجد الخيال والواقع الملموس ينجدلان عبر الشفاهيات في بلاد الحضارات، وادي الرافدين.
'أبوه بمنزلة حفيدي رغم أنّه من جيل أبي'
بهذه الجملة يبدأ الكاتب روايته وكأنه يضعنا على تركيبة العمل الغرائبية، التي نبهنا منذ بداية الكتاب أنها تشبه المسرح ولكنها ليست مسرحا وتشبه الرواية لكنها لا تعتمد تقنياتها، تتناول حياة عائلة بسلسلة تصيب القارئ بالدوار، وهي من هذا الباب إنما تحيلنا إلى رائعة ماركيز 'مئة عام من العزلة'، التي نتوه أحيانا فيها فلا نعرف الأب من الجد من الحفيد في واقعية سحرية جعلت الكتاب واحدا من أهم مئة كتاب صدرت في القرن العشرين، إلا أن كمال الدين هنا اكتفى بعرض هذه الشخوص دون الدخول إلى تفاصيل كثيرة، فبقيت أشبه بالشخوص الكرتونية المسطحة، وأظن أن تعدد الشخوص والأحداث في العمل كان من الممكن استغلاله من خلال الغوص عميقا في دواخلها والانطلاق منها للواقع المعاش بحيث يثري العمل أكثر ويجعل شخوصه ملموسة كما هي في الوقع.
وربما أمكننا اعتبار 'أورال' رواية تجريبية، كونها عملاً يتجوّل بين الميثولوجيا والوقائع في مدن قديمة وأخرى حديثة، مدن متخيلة ومدن قائمة بالفعل، ويقوم تكنيكه على اعتماد عناوين داخلية تلخص تاريخ العائلة وينطلق منها الكاتب للدخول إلى قصته، بشكل يجعل كل قصة مستقلة بذاتها، وفي ذات الوقت هي جزء من بنيان متكامل يربطه الكاتب بخيط واحد هو خيط العائلة السريالية المنشأ.
وقد اعتمد الكاتب أساليب فنية متعددة مثل الانتقال من الواقعية السحرية، إلى الواقعية اليومية والواقعية الفوتوغرافية، إضافة الى تناوله مختلف الطقوس العراقية القديمة بأمانة، لكي يشير بطريقة غير مباشرة الى تنوّع هذا البلد الذي يراد له مرة أخرى أن يصبح 'مونوغام'.
كما استخدم علم الحيوان حيث تحدث بالشرح المفصل في الخاتمة عن حشرة العقرب التي اتكأ عليها في العمل في سياقين، أولهما حينما تحدث عن زوجة الجد التي رآها أحد ضحاياها عقربا، والتي أوصتها أمها قائلة: 'إذا ما تمكّنت من عشيق اصمتي أوّلا. تذرّعي بالخجل وانتظري منتصف الليل. عند ذاك ضمّيه إلى صدرك. أثناء القبلات ستستحيلين عقربا بحرية، مثل أمّك، تنفثين بدلا من السمّ عفاريت لا تترك خلفها إلاّ خواء وقبض ريح. وبعد أن تحتّل العفاريت ذلك الكائن يستحيل أداة طيّعة في خدمة العائلة'.
والسياق الآخر حينما كانت العقرب هنا وسيلة لتعذيب ميثم، تناوره كما يناوره إنسان، واظن أن ما يريد كمال الدين ان يقوله لنا هنا أن العقرب هذا هو مفتاح الكتاب.
في هذا العمل الذي قسمه الكاتب لفصول مكثفة جدا على غرار أعماله المسرحية يروي كمال الدين ذاكرة العراق ومأساته، من خلال عائلة البوذبّاح والتي أفرد لها وصفا تفصيلا من جهة الأب والأم من خلال خريطة توضيحية لشجرة العائلة، إلا أنه هنا كان يرسل أفكارا أكثر مما يبني أماكن وشخصيات، وكأننا به مثقلا برؤى كانت هي السيد الحقيقي للعمل، حيث يقول على لسان إحدى الشخصيات في الرواية: 'كل من شهد انفجار طائرة عديله حقّ عليه استقبال عزرائيل بين الساعة الفلانية والساعة الفلانية في اليوم الفلاني. كل من سمع المدافع الموجّهة إلى قصر صهره التائب بعد عصيان استحق أن يندفن حتّى النصف في الأرض أو الإسمنت. كل من هبّت عليه رياح الشائعات عن تنّحي الملك السلف لخير خلف بالقوة أسكن في غيمة صفراء تفوح منها رائحة تفاح. وكل من فعل كذا سقوه شرابا كذا، وكل من أحسّ كذا أطعموه كذا، وكل من اعتقد أنّ كذا حدث لكذا حلّت عليه الواقعة الكذا، وكل من قدّم مشورة عن الكذا صار بامكانه أن يدخل بوابة الكذا ويسقط في سائل الكذا بينما يركض الملك بهدف انقاذ الكذا من الذوبان في ممحاة الكذا السائلة'.
وميثم البوذبّاح الشخصية المركزية في 'أورال' هو المعادل الموضوعي للمثقف العراقي، الذي وجد نفسه تحت فكي رحى الطغيان من جهة والطائفية التي أودت بحضارة هذا الشعب من جهة أخرى، وهو حازم كمال الدين نفسه الذي لم يخل عمل مسرحي واحد له من مناقشة الاضطهاد والديكتاتورية التي ترك بسببها بلده العراق.
وقد نالت الرواية اهتماما ملحوظا من قبل وسائل الإعلام البلجيكية والمثقفين البلجيكيين حيث قال عنها الكاتب البلجيكي كريستوف أنداردس: 'كتاب رائع. إنه لأمر جيد أنه ما يزال بالإمكان ظهور مثل هذه الكتب في هذا البلد'، ثم عقّب قائلا: 'هو كتاب كوسموبوليتي على صعيد المحتوى وأسلوب الكتابة، فالأدب الفلاماني دائما بروفينسيال ( اقليمي) وفي هذا الكتاب، لدينا أخيرا ثيمة جادة وفي نفس الوقت مكتوبة بأسلوب أدبي مبتكر جدا، فيه استخدام مميز للتقينات الأسلوبية'.
أما مجلة 'كيفكيف' الثقافية فقد أفردت فيها الكاتبة 'ليزبات كونينكس' مقالا عن الرواية حيث قالت: 'الحكاية تتناول كيفية تفكيك الشعب العراقي ( كما تفكك سيارة عاطلة) وكيف يمكن أن تكون الأعراف الثقافية ووجهات النظر الحضارية وسيلة لتشريع الدمار، بروح تزخر بالكوميديا يحاول حازم كمال الدين أن يرسم صورة لإبداع الشعب العراقي في ايجاد طرق تتعايش مع ما يجري.'
من جانبه كتب 'إلي باولس' في مجلة 'كاتنك أيدج' الثقافية تحت عنوان 'ألف قصة وقصة من العراق'، حيث قال: 'ثمة متعة قراءة كبيرة جدا في رواية كمال الدين الأولى المكتوبة باللغة الهولندية، فهي تصلح للقارىء الذي يبحث عن رواية من النوع الجدي الثقيل، كما تصلح للقارىء ذي الميول الترفيهية وخفيفة الظل، أما فيما يخصنا وإلى اي نوع من القراء ننتمي نحن، فأمرنا غير محسوم، لكننا تمتعنا على وجه التأكيد.'
ثم أردف قائلاً: 'كمال الدين يرينا العراق المعاصر في ( أورال)، وهو يقوم بذلك ضاحكا باكيا ليقدم حكايا رائعة، بيد أنّ ما تحت جلد الحكايا يمكنك أن تلمس موقفا نقديا صارما، لقد كانت الحياة تحت حكم صدام مريعة، لكن الاحتلال الأمريكي لم يجلب معه للشعب العراقي أي شيء ما عدا البؤس، فالعراق ما زال مجزأ ويتيما'.
يذكر أن حازم كمال الدين هو مثقف عراقي من مواليد مدينة الحلة في العام ( 1954) اضطر لمغادرة وطنه أيام حكم صدام حسين. وبعد سنين طويلة من الترحل في البلدان استقر به المقام في بلجيكا، حيث أسس فرقته المسرحية المعروفة ( محترف صحراء 93) حتى عام 2004 حين أسس جماعة 'زهرة الصبار للمسرح' حيث ما زال يعمل كمخرج ومؤلف.
إلى جانب عمله في المسرح اشتغل كمال الدين مدرّسا في جامعتي ( أنتوربن وكانت)، وفي معهد مسرح الحركة البلجيكي. كما عمل مستشارا ( منتور) في المعهد العالمي للدراسات المسرحية العليا في أمستردام (داس آرتس) .
[img][/img]