اهرامات الجيزة, (مصر)
«أهرامات الجيزة».. إحدى معجزات الدنيا السبع وحاضنة فلسفة المصريين في العلم والحضارة والحياة فيما بعد الموت، وصفها شاعر العرب الكبير أبو الطيب المتنبي حين زار مصر بأنها «بناء يخاف منه الدهر». فمع آلاف السنين التي مرت وتمر عليها يزداد الولع العالمي بها والشغف من أجل كشف أسرارها، ولا يكاد الأثريون المتخصصون يحلون أحد ألغازها إلا وتتكاثر عليهم عشرات الألغاز، الأمر الذي أغرى الكثير من هواة المغامرة في عدد من البلدان بأن يتجمعوا تحت مظلة هذا الولع ويطلقوا على أنفسهم «مجانين الأهرامات».
الأثرية المصرية وهيبة صالح توضح هذا الولع لافتة إلى أن أهرامات الجيزة ما زالت هي أكثر آثار الدنيا إثارة للجدل وستستمر في ذلك، نظرا لاختلاف الآراء حولها (من بناها، وكيف تم بناؤها، والسبب الحقيقي وراء هذا الصرح الضخم؟). كما أنها ستظل صرحا يحج إليه البشرية، لأنها الأثر الوحيد الذي يجعلهم يعتقدون أنه موجود على هذه الأرض لغرض غير معلوم حتى الآن، والناس ترى أنه بالوقوف على سفح الأهرامات ربما يستطيعون أن يروا أشياء لم يروها في الكتب التي قرأوها.. لذلك سيظل الوقوف أمام الهرم حلما يراود كل إنسان.
هذه المعاني عبر عنها استطلاع صدر مؤخرا، أجراه موقع «truprint.co.uk» البريطاني المتخصص في الصور الرقمية، حين خلص إلى أن أهرامات الجيزة هي المعلم الأثري المفضل في التصوير بالنسبة للبريطانيين، متفوقة على ساعة «بيغ بن»، أشهر معالم العاصمة البريطانية. ففي حين حصلت الأهرامات، في هذا الاستطلاع الذي أجري على ألف شخص، على 20% من الأصوات، من بين 10 معالم شهيرة موزعة في مختلف أنحاء العالم، نالت ساعة «بيغ بن» 17% فقط. وجاء برج «إيفل» الشهير في باريس في المركز الثالث محققا 15% من الأصوات، يليه تمثال الحرية المركز الرابع، ثم أوبرا سيدني يليها تاج محل، واحتفظت إيطاليا بالمركزين السابع والثامن، بالكوليسيوم وبرج بيزا، فيما لم يحصل سور الصين العظيم ومنزل الفيس برسلي في ممفيس على أي أصوات.
وتفسر صالح، في حديثها لـ«الشرق الأوسط» ذلك قائلة «إن الناس في بريطانيا والعالم شغوفة بالأهرامات أكثر من أي أثر حديث لأنهم قرأوا أبحاث علماء الرياضيات والهندسة والفلك والآثار كل بنظريته.. وكلها دراسات تزيد الأهرامات غموضا وتجعل الإنسان الحديث بكل تقنياته العلمية يقف عاجزا حائرا أمام بناء بناه شعب بآلات بسيطة، ومن دون عجائن بناء كالإسمنت مثلا، ويتحدى الزمن».
فيما قالت كارولين ديكنز، المسؤولة في الموقع الذي أجرى الاستطلاع، «إنه من المستحيل الحصول على صورة سيئة لأهرامات الجيزة، فهي تشع بشكل مبهر منذ شروق الشمس وحتى غروبها، ولهذا فلا يوجد عاشق لفن التصوير، إلا ويحتفظ لها بمكان مميز في مجموعته»، واصفة ساعة «بيغ بين» بأنها «مملة».
وأوضحت صالح أن هناك الكثير من علماء الآثار والفلك والهندسة والرياضيات والفنون حاولوا حل لغز الغرض من بناء هذه الأهرامات، خاصة الهرم الأكبر «خوفو»، وقد توصل كل منهم إلى ما وصفه بـ«الحقيقة» في الجانب الذي يهمه، كما حاول البعض تفسير ما جاء في متون الأهرامات وبرديات الفراعنة ومخطوطات المؤرخين والكتب السماوية أحيانا. فقد ذكر مانيتون، المؤرخ المصري الذي كان يعمل كاهنا بمعابد الشمس، وكان مسموحا له بالاطلاع على أسرار بيوت الحياة «أن الملك خوفو هو أحد أنصاف الآلهة، جمع من الحكمة والمعرفة المقدسة، وكان مصلحا وساحرا، وكتب فصلا من كتاب الموتى، فكان الناس يتسابقون ويتطوعون لبناء هرم الآلهة بعد انتهاء مواسم الزراعة والحصاد أثناء موسم الفيضان».
وأكدت مجموعة من علماء الفلك الإنجليز، مثل هيوارد فيز عام 1837م، وبياتزي سميث، أن هرم خوفو لم يشيّد كمقبرة، وإنما له علاقة بعلوم الفلك، وأن الذين بنوه كهنة معبد الشمس في معبد «أون»، حيث أنشئ ليكون مرصدا للتنجيم الذي كان يعتبر جزءا من العقيدة الدينية.
فيما خلصت أبحاث العالم البريطاني ريتشارد بروكتور عام 1880، إلى أن الهرم أنشئ على مرحلتين؛ الأولى كمرصد فلكي لإله الشمس كما ذكرت المتون القديمة، أن الإله «تحوت»، إله المعرفة، أمر ببنائه لتحفظ به أسرار الكون السماوي ويتلقى به كهنة الشمس رسالة الإله، وكان البناء في هذه المرحلة يصل إلى مستوى الطريق الصاعد أي إلى منسوب المدماك الخمسين، نحو 42م، أما المرحلة الثانية هي استخدامه كمقبرة فاستكملها الملك خوفو.
ويشغل الهرم الأكبر، الذي يعود بناؤه للأسرة الرابعة التي حكمت مصر من 4000 سنة قبل الميلاد، مساحة 13 فدانا، ويبلغ ارتفاعه الأصلي 146م، لكن ارتفاعه أصبح الآن 137م، وطول ضلعه كان 240م، أصبح 170م، بسبب عامل الزمن وتغيرات الطبيعة.. وكان عرضة للسرقة والنهب طوال التاريخ.. حيث تعامل معه البعض قديما على أنه محجر فاقتلعوا أحجاره لبناء صروح ومعابد، حتى في العصور القريبة شيدوا القناطر الخيرية من أحجاره. (تصل عدد الأحجار التي بني منها الهرم الأكبر إلى 2.3 مليون حجر). وكان الخليفة المأمون قد حاول دخول الهرم في القرن الثامن الميلادي، أملا في العثور على الكنوز ولم يستطع الوصول للمدخل، فقام بعمل فتحة فيه، أصبحت هي المدخل المستخدم الآن فكشف عن ممراته وقاعاته لكنه وجدها فارغة.
وذكر المؤرخ البريطاني ديفيد سون عام 1920م أن الفاصل في واجهات الهرم لا يمكن رؤيته بالعين المجردة إلا في وقت معين في السنة وهو الساعة السادسة صباحا في 12 مارس (آذار) في الانقلاب الربيعي، وأن هذه الظاهرة لا تستغرق إلا دقيقتين، وقد قام سلاح الطيران البريطاني بالفعل بتسجيل الظاهرة عام 1930م. ثم اكتشف عالم الرياضيات الإنجليزي جون تيلور البوصة الهرمية ووجد أنها تختلف عن البوصة الإنجليزية وبواسطتها كشف رياضيات الهرم، وأنها حددت بدقه قياس الزمن وتاريخ الأحداث بالأيام والساعات.
وتروي الأثرية وهيبة صالح مجموعة من القصص التي تبرز ولع الناس بالأهرامات أو ما أصبحوا يسموا بـ«مجانين الأهرام»، فقد ألف شخص إنجليزي الكثير من كتب عن الأهرامات لإثبات أن الأهرامات بناها قوم جاءوا من الشرق أي من قارة «أطلانتس» أو «القارة المفقودة». وهناك جماعات أخرى تقوم بالحج للهرم الأكبر (خوفو) وعمل تأملات، حتى إن جماعة منهم قررت الانتحار داخل الهرم الأكبر في بداية الألفية الجديدة، وهو ما جعل الدكتور زاهي حواس، أمين المجلس الأعلى للآثار، يأمر بإغلاق الهرم تحسبا لأي شيء من هذا القبيل.
وهناك أميركي دخل ليلا في الهرم وادعى أن الملك خوفو تحدث إليه، وأصدر كتابا عن حديث خوفو معه، ما جعل الدكتور زاهي حواس يدخل الهرم وحيدا الساعة الثانية صباحا، إلا أنه اكتشف أنها لم تكن سوى أصوات فئران. أيضا رجل ألماني ادعى أن هناك مجموعة غريبة ستزور الهرم ليلا وأنه سينتحر قبل دخولهم، وبالفعل انتحر من فوق برج الجزيرة بالقاهرة تاركا رسالة بذلك المضمون. وعرف عن مجموعات يطلق عليهم «the new age» يلبسون ملابس شفافة بيضاء يذهبون للتأمل داخل الهرم الأكبر انتظارا لنزول النبوءة عليهم، التي ستجعل السلام يعم العالم.
وتحتضن أهرامات الجيزة الثلاثة (خوفو - خفرع - منقرع» في فضائها - بالإضافة إلى هذه الأسرار الفرعونية الشيقة والعجيبة - سحر طبيعة الصحراء المصرية ورمالها الخلابة، وتعد أحد الأماكن الجميلة لركوب الجمال والخيل والتجول في هذه المناطق الأثرية، مما يزيد هذه الرحلة متعة وتشويقا. وفي يونيو (حزيران) من العام الماضي 2009، قام الرئيس الأميركي باراك أوباما بجولة في الأهرامات وأبو الهول ومراكب الشمس الفرعونية، لكنه رفض أن يركب جملا من جمال البدو، خشية السقوط أمام الصحافيين، قائلا للمصورين الذين أحاطوا به «إنه يفتقد فرصة ركوب الجمل، ولو لم تكونوا هنا لركبت أحد هذه الجمال».
وتجري الآن جهود بحثية جبارة، بين مصر بمشاركة خبراء دوليين، وباستخدام أحدث التقنيات مثل الروبوت، الذي أدخل في فتحات التهوية وتابعه العالم أجمع على شاشات التلفزيون، وما زال هناك مشروع لاستكماله. وذلك من أجل الكشف عن أسرار الهرم الأكبر، بكل الطرق الممكنة.. فستظل دائما أنظار العالم متجهه ناحية الهرم، متلهفة لسماع أي خبر جديد عنه.
نقلا عن الشرق الاوسط.