مقال مهم بقلم\ عبدالله المدني
قلت سابقا وسأظل أكرر، كلما أتيحت لي فرصة، أن جارتنا المشاغبة إيران تملك كل مقومات التحول إلى قوة إقليمية مؤثرة تأثيرا إيجابيا في مسائل الأمن والاستقرار والازدهار والتنمية في بحيرة الخليج العربي، فقط لو استثمرت المعطيات المتوفرة لها استثمارا صحيحا، ونبذت السياسات العبثية والديماغوجية والشعبوية والاستفزازية بحق جاراتها العربيات في المنطقة.
ولعلكم تتذكرون ما كتبته قبل مدة ليست ببعيدة تحت عنوان «جارتنا التي لا ينقصها شيء»، والذي عددت فيه ما وهب الله إيران من مقومات حضارية وثقافية واقتصادية وعلمية وجغرافية وسكانية وسياحية، من تلك التي لا يتوفر مثلها مجتمعة لأي قطر آخر، وبالتالي يساعدها للبروز كدولة نموذجية يتطلع إليها العالم كعامل استقرار – وليس كعامل توتير وتأزيم - ليس في الخليج فحسب، وإنما في منطقة الشرق الأوسط بأسرها.
وأضفت في المقال المذكور أن ما ينقص إيران حقا هو غياب إدارة سياسية عاقلة تفهم أبجديات علم السياسة، ومبادئ القانون الدولي، وأصول العلاقات الدولية، وتجيد الدبلوماسية الرصينة البعيدة عن الشعارات، ولغة التخوين والاستعلاء، وإطلاق الاتهامات الجزافية.
وهذا، بطبيعة الحال، يقودنا إلى استحضار ما كان من أمر إيران في حقبة ما قبل قيام ثورتها الإسلامية في عام 1979 ، ومقارنتها بالحقب التالية، كدليل على صحة ما نقول. ففي حقبة النظام الشاهنشاهي، وبالرغم من كل ملاحظاتنا على السياسات الخارجية لهذا النظام، وما اتصفت به من تناغم مع السياسات الغربية الاستعمارية، وبالرغم من كل ما اعترت العلاقات العربية- الإيرانية آنذاك من شد وجذب وخلافات على خلفية مواقف الشاه من القضية الفلسطينية، وحركات التحرر العربية، وقضية السيادة على البحرين، واحتلال الجزر العربية التابعة لدولة الإمارات الوليدة، فإن تلك العلاقات اتسمت إجمالا بالهدوء والتعاون والتفاهم الذي يمكن أن نعزوه تحديدا إلى وجود قيادة إيرانية على رأسها رجالات تراكمت لديهم التجارب السياسية والدبلوماسية والثقافية الرفيعة، جراء احتكاكهم بالعالم الخارجي والثقافات الأجنبية، وتلقيهم العلم في عدد من أفضل الجامعات العالمية وأعرقها، من أمثال: د. منوشهر إقبال، وحسين علي منصور، وعلي أميني، وأمير عباس هويدا، وعباس علي خلعتبري، وجمشيد أموزيغار، وأسدالله علم، وأردشير زاهدي، وغيرهم.
وقتذاك لم يكن في سدة القرار في طهران رجال دين معممون، لئن صلحوا لإدارة المآتم والمساجد وإلقاء خطب صلاة الجمعة والإجابة على الأسئلة الفقهية، فإنهم لا يصلحون لإدارة الأوطان والشعوب والأزمات لافتقارهم الشديد لفنون السياسة والحكم، خصوصا حينما يختلط الديني بالسياسي، فيبني الزعيم القائد قراراته الخارجية على غيبيات أو خرافات مستمدة من بطون كتب التاريخ القديم، أو يسترشد في استراتيجياته بالأحلام والأوهام وتخيلات «الهالات النورانية المحاطة به»، أو يسبغ على سياساته صفة العصمة المطلقة غير القابلة للنقاش والجدل.
في الماضي، وفي ظل وجود قيادات سياسية عاقلة في طهران، أمكن لدول الخليج – وبصورة أدق كبرى تلك الدول ممثلة في المملكة العربية السعودية تحت قيادة عاهلها الراحل فيصل بن عبدالعزيز – أن تتفاهم مع إيران بطريقة حضارية وهادئة من أجل حل العديد من الملفات الشائكة كقضية البحرين، وقضية التمرد المسلح في إقليم ظفار العماني، ناهيك عن تعاون البلدين في تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي، وتأمين استقرار أسعار النفط من خلال عضويتهما في منظمة الأقطار المصدرة للبترول (أوبيك)، وهذا ما لا يمكن حدوث توقعه اليوم في ظل القيادة الإيرانية الحالية، حتى لو عقد الجانبان آلاف الاجتماعات على أرفع المستويات، وذلك لأن النظام الفقهي الإيراني لديه أجندة خاصة غير قابلة للتفاوض قوامها زرع الفوضى واللااستقرار في بحيرة الخليج، وإحداث الشقاق بين الأنظمة الخليجية وشعوبها، من أجل فرض هيمنته ومن ثم إقامة أنظمة جديدة مسلوبة الإدارة، ومتواطئة معه، وسائرة في ركابه على شاكلة النظام العراقي الحالي. ذلك أن هذا، في تصوره، تكليف إلهي لا بد من تنفيذه استعدادا لظهور الإمام الغائب.
ثم كيف - وهذا سؤال نوجهه إلى البعض ممن ينادون بضرورة إقامة حوار ما بين الطرفين الإيراني والخليجي لحل جميع الملفات البينية الشائكة – يمكن إقامة مثل ذلك الحوار في وقت لا يتوقف فيه نظام طهران والدمى التي تحركها من أحزاب وتنظيمات وشخصيات عربية عن التحريض على الأقطار الخليجية وأنظمتها الشرعية، وزرع شبكات التجسس والفتنة في معظم دول مجلس التعاون، ناهيك عما يطلقه رموز النظام الإيراني بين الفتنة والأخرى من ادعاءات حول حقهم في السيادة على البحرين وعلى جزر الإمارات العربية، وحقهم في تسمية الخليج بـ «الفارسي» بل ما يبثه هؤلاء من سموم تكشف عن عدائهم الدفين للعرب عموما ولعرب الخليج خصوصا، بدليل اتهاماتهم المتكررة للأنظمة الخليجية بالعمالة للغرب والصهيونية، وحديثهم عنها بلغة استعلائية مقيتة ومثقلة بالإهانات، الأمر الذي لا يليق بنظام دولة تزعم أن عمرها يناهز 2500 عام، أو بسلوك أناس من أصحاب الحضارات العظيمة والعلوم والفنون الرفيعة، طبقا لما فصله الصحافي والمعلق الإيراني «صادق زيبا كلام» في موقع «دبلوماسي إيراني» بتاريخ 13 إبريل الجاري.
فمن بعد عودتهم مجددا في عام 2007 إلى إثارة موضوع حقهم في السيادة على البحرين، وتشكيكهم في هذه المسألة المحسومة دوليا بموجب قرار مجلس الأمن رقم 278 لعام 1970 ، هاهم كبار رموز النظام الإيراني السياسيون والدينيون والتشريعيون والعسكريون يعودون مرة أخرى إلى لغة التهديد والوعيد والتحريض معطوفة على محاولات خائبة للظهور بمظهر الحمل البريء عبر إلقاء مسؤولية الخلل في العلاقات ما بين ضفتي الخليج على الولايات المتحدة وقوى «الاستكبار» العالمية بحسب زعمهم. ودليلنا الأقوى هو ما صدر مؤخرا على لسان المدعو «حسين شريعتمداري» ممثل المرشد الأعلى «خامنائي» لدى صحيفة «كيهان» المعبرة عن توجهات الولي الفقيه، من ضرورة استهداف الشخصيات الرسمية السعودية في مختلف دول العالم تحت مسمى «الإعدامات الثورية»، وهو ما سيحول إيران من دولة إلى تنظيم إرهابي عالمي.
والحقيقة أن مثل هذه التهديدات لا تأتي من فراغ، وليست لمجرد التهويش. فالنظام الحاكم في طهران له باع طويل في العمليات الإرهابية عن طريق أدواته المنتشرة هنا وهناك، وعلى رأسها «حزب الله» اللبناني الإرهابي. فهذا الأخير تبين أن له علاقة مؤكدة باغتيال الدبلوماسيين السعوديين الأربعة في العاصمة التايلاندية في منتصف الثمانينات، وبالمحاولة الفاشلة لاغتيال أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح، وبتفجير إسكان الخبر بعد حرب عاصفة الصحراء، وباختطاف طائرة «الجابرية» الكويتية في عام 1988، وقبل ذلك عملية تفجير المقاهي الشعبية في الكويت في عام 1986. ويمكن في السياق نفسه، ذكر العديد من عمليات التصفية الجسدية التي قامت بها طهران ضد معارضيها في الخارج بواسطة أدواتها الاستخبارية الذاتية مثل اغتيال المناظل الكردي الإيراني «عبدالرحمن قاسيملو» في فيينا في عام 1989 ، واغتيال «شاهبور بختيار» آخر رؤساء حكومات الشاه في منزله في باريس في عام 1991.
المؤسف هو أنه بالرغم من كل هذه الأدلة والبراهين والمعطيات على سوء سلوك النظام الإيراني تجاه عرب الخليج، فإن هناك من المفكرين العرب، بل ومن ذوي الاتجاه القومي العروبي (هذه وحدها تثير علامات التعجب!!!) من لايزال حتى هذه اللحظة يشيد بالقوة العسكرية الإيرانية، ومشروعها النووي المثير للشكوك والمخاوف، معتبرا إياهما ذخيرة للعرب والمسلمين في معركتهم الكبرى مع إسرائيل، دونما أدنى اكتراث بما يشكلهما من خطر داهم على أشقائه في الخليج. أما الأكثر إيلاما فهو أن ضمن هذه الجوقة العربية المصدقة لطروحات طهران، والمتماهية مع الأجندة الشيطانية للأخيرة، أناس من الخليج نفسه، يعرفون بـ «المفكرين» ويعتبرون أنفسهم دعاة للحرية والديمقراطية والإصلاح.
والسؤال في الختام هو: ألا يخجل هؤلاء من هكذا إزدواجية فاضحة؟ أم أنهم لم يسمعوا بعد بأساليب القمع الوحشية في شوارع طهران ضد المتظاهرين العزل من أجل الإصلاح والحريات ولقمة الخبز؟ ثم ألا يتذكر هؤلاء أنهم هم من علمونا ابتداء كراهية إيران، والحذر منها، والوقوف ضدها، بسبب ومن دون سبب، زمن المد القومي؟