مقال للباحث :رامي ابو جبارة
كاتب من الاردن
------------
كتب وسيُكتب الكثير عن الثورة المظفرة للشعب التونسي العظيم، وشبابه الأبطال الذين كسروا حاجز الخوف، الذي لم يستطع آباؤهم كسره، في احد أكثر الدول قمعية في الوطن العربي، بل وحتى في العالم اجمع. ورغم أنني لست خبيرا بالشأن التونسي، ولكن كناشط سياسي ومراقب عن كثب للمشهد التونسي في الأيام الأخيرة، كغيري من عشرات الملايين من العرب، وبعيدا عن صراع القوى في الشارع التونسي، ودستورية القرارات المتخذة بعد هروب بن علي ومستقبل السلطة السياسية، لفت نظري ثلاث اضاءات في تلك الأحداث التاريخية، أرى من الأهمية طرحها اعلاميا والتوقف عندها والتأمل فيها، حتى يتسنى للشعوب الاستفادة من تجارب ونضالات بعضها البعض، فالشعب باق وأعمار الطغاة قصار. أولى هذه الاضاءات هي اضاءة تهم كل زعيم عربي ارتهن للغرب وامريكا تحديدا، ونصّب نفسه حارسا على مصالحها منسلخا بذلك عن شعبه، والنقطة هي أن البراغماتية الامريكية لا تعترف إلا بمصالحها، فهذا البيت الأبيض يصرح بان للشعب التونسي الحق في اختيار زعمائه، وهذا أوباما يدين استخدام القوة ويشيد بشجاعة وكرامة الشعب التونسي، والسؤال هنا لماذا لم يعلن البيت الأبيض دعمه حق الشعب التونسي في اختيار زعمائه طوال 23 عاما من القمع؟ ولماذا لم يشجب أوباما الاستخدام المفرط للقوة، ولم يشد بشجاعة الشعب التونسي ولا كرامته إلا بعد هروب الرئيس بن علي وليس طوال شهر من الاحتجاجات المتواصلة؟ الجواب بسيط ومفاده أن كرامة الشعب التونسي وحرية اختياره لم تكن ضمن حسابات المصالح الامريكية وقتها، فالكرامة والحرية مسائل نسبية وفق المنظور الامريكي قابلة للتجزئة، حسبما تقتضيه المصلحة.
أما ثاني هذه الاضاءات فهو تواطؤ الاعلام الغربي وازدواجيته، فهذه كبرى قنوات التلفزة الاوروبية والامريكية، خصوصا الناطقة بالعربية منها، تؤجل الحديث عن الثورة التونسية إلى ثاني وربما ثالث عناوين الاخبار الرئيسية، والتقليل منها بوصفها مجرد احتجاجات متفرقة ليس إلا، لا يشارك فيها إلا بضع مئات، وفي احسن الحالات آلاف. أما الاحتجاجات المتفرقة، التي شارك بها بضع مئات من الايرانيين ضد الرئيس نجاد على خلفية اعلان النتائج الرئاسية الاخيرة هناك، فقد تحولت بفضل الماكينة الاعلامية الغربية إلى ثورة شعبية عارمة، يشارك بها مئات الآلاف من جميع اطياف الشعب الايراني فيا للعجب.
أما آخر هذه الاضاءات فهي تتعلق بإرادة الشعوب وقيادات المعارضة بأنصاف المواقف، والمنتشرة في أوطان القمع العربية جميعها. ففي الأحداث الأخيرة كان الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو اكبر قوى المعارضة المصرح بعملها داخل تونس، متذبذبا رغم ايمانه الكامل بمطالب الشعب التونسي ونضاله، وقد تبيّن لنا هذا الموقف من خلال تصريحات أعضائه بعد هروب بن علي، أما قبل ذلك فقد كان الاتحاد العام للشغل يعبّر عن مجرد التضامن مع الشعب، وكأنه ليس جزءا من هذا الشعب ولا يمثله. ولكن وبالمحصلة النهائية دعا هذا الاتحاد - رغم تردده - إلى المظاهرة في جادة الحبيب بورقيبة، التي كان لها الأثر الاكبر في امتداد الثورة إلى العاصمة، ومن ثم هروب الرئيس بن علي. ما أود تسليط الضوء عليه هو أنه حتى الاتحاد التونسي للشغل لم يكن يدور في خلده أن باستطاعته تغيير شيء من المعادلة في ظل هذا النظام القمعي في يوم من الأيام، ولكن تبين عكس ذلك، فإرادة الشعب قادرة على قهر المستحيل، والأمر ليس بحاجة إلى اجتراح المعجزات، وانما بحاجة إلى قيادة صلبة مستعدة للتضحية، وتمتلك الجرأة على اتخاذ القرارات المصيرية والحاسمة في اللحظة المناسبة، والأهم أن يكون لها برنامج ومشروع وطني واضح، حتى يتم استثمار تضحيات الشعب لصالح مشروعه ومصالحه على اكمل وجه، ولا يتم توظيفها في مشاريع اخرى مشبوهة وتعود كرة الظلم والقمع مرة أخرى.
في الختام وانا اكتب هذا المقال، بعد ساعات فقط من هروب الرئيس بن علي، يبدو ان هناك محاولات للالتفاف على تضحيات الشعب التونسي العظيم ونضالاته، ولكن على أية حال يبقى التوقع الآن عصيا، وكل ما على الشعب التونسي فعله هو الاستمرار بثورته حتى سقوط النظام بأكمله، خصوصا بعد ظهور المجرم والمطلوب في قضايا التعذيب، وزير الداخلية الأسبق عبد الله القلال إلى جانب الوزير الأول محمد الغنوشي، مما يشير إلى وجود نفس العصابات الفاسدة التي سرقت ونكـلت بالشعب التونسي لعشرات السنين، فلذلك يجب استمرار الثورة حتى النهاية، فالثورات لا يمكن اعادة اطلاقها بسهولة اذا ما تم اخمادها، وتراكم عشرات السنين لا يمكن انتاجه في ايام، وحذار حذار من الانقلاب على ثورة الشعب التونسي، لأن نجاح الثورة في تونس سيعطي دفعة لثورات قادمة في مناطق مختلفة من أنحاء هذا الوطن العربي المنكوب بطغاته.