لم يدر في خلد الطبقة السياسية الإسبانية أن أولئك الشباب الذين كانوا ينعتون بالسطحيين والمستسلمين سيكون بإمكانهم تحريك الماء الراكد في الأوساط السياسية، ودفع البلد للدخول في نفق سياسي معتم يصعب الآن استشراف آليات الخروج منه.
فبعد سنوات من الجمود السياسي وتلكؤ الحكومة الإسبانية في تطبيق حلول اجتماعية للخروج من الأزمة الاقتصادية التي زرعت اليأس في قلوب ملايين الإسبان، قرر شباب 15 مايو/أيار رفع التحدي عبر الاعتصام في الساحات العمومية في 60 مدينة إسبانية، مرددين شعار "ديمقراطية حقيقية الآن".
ولتحقيق الديمقراطية المنشودة لم يطالب هؤلاء الشباب في الأيام الأولى من احتجاجاتهم بإسقاط النظام أو محاكمة رموز الفساد، بل اختاروا هدفا آخر قد يبدو فضفاضا لكنه يفسر -حسب بعض المحللين- العجز الديمقراطي الذي أصبح يلقي بظلاله على المنظومة السياسية الإسبانية.
ويبدو أن التغيير الجذري لقانون الانتخابات والتشريعات المنظمة لعمل الأحزاب هو العنوان الأبرز الذي سيتصدر تحركاتهم، والتي ستمتد بدورها في نسختها الأولى إلى غاية يوم الأحد المقبل، وهو موعد إجراء الانتخابات البلدية والإقليمية.
لكن هذا المطلب الذي تم التصويت عليه بإجماع من طرف المحتجين في ساحة "بويرتا ديل سول" -القلب النابض للعاصمة الإسبانية- يبدو أنه عصي على الفهم لدى القوى السياسية الرئيسية التي تحاول امتصاص الغضب عبر إطلاق وعود حول فرض ضرائب خاصة على البنوك تارة، والإقرار بتفهم الاحتقان السائد بين المحتجين تارة أخرى.
وهي بحسب المحتجين ليست سوى مناورات، مما زاد من غضب الشاب الإسباني بابلو راميرث الذي قال إنه اضطر إلى التوقف عن الدراسة نظرا لقلة ذات اليد والتحق بالمطعم المتواضع الذي يملكه والده في إحدى ضواحي مدريد.
ورغم صغر سنه، يبدو بابلو ملما بالتفاصيل الدقيقة للسياسة الإسبانية، فهو يرى أن القانون الانتخابي الإسباني يفرض شروطا تعجيزية على الأحزاب الصغرى التي رغم توفرها على عدد كبير من الأصوات في بعض الأقاليم فإنها لا تحظى بمقاعد في البرلمان، وهو واقع أفرزته شروط الانتقال الإسباني التي أرادت إنجاح هذه التجربة عبر منح امتيازات كبيرة للأحزاب القومية على حساب الأحزاب الصغرى، بينما يحاول بابلو وأقرانه تغيير هذا الواقع "لأن المجتمع الإسباني نضج ولم يعد يقبل هذا الحيف".
الاشتراكيون يشاركون
ومن وسط الاعتصام، يفصح الشاب الإسباني كورمان موراليس عن ميوله الاشتراكية، مؤكدا أنه شارك في كل المظاهرات المعارضة للحزب الشعبي اليميني ومنح صوته قبل سنوات للحزب الاشتراكي الحاكم، لكنه بات يرى أن اليسار الإسباني يحتاج إلى نقد ذاتي.
ويصف الشاب الاشتراكي آليات هذا النقد بالامتناع عن التصويت والبحث عن حلول بديلة لإنهاء هيمنة الأحزاب الكبرى على المشهد السياسي "الذي أصبح مرتعا للمرتشين ومحترفي السياسة والقضاء المسيس".
من جانبه، قال خوان كوبوس -وهو أحد الناطقين الرسميين باسم حركة شباب 15 مايو إنه لا يمكن فهم حركتهم الاحتجاجية دون العودة إلى التجربتين التونسية والمصرية.
وأضاف "نستخدم في تواصلنا نفس المواقع الاجتماعية التي استخدمها الشباب في مصر وتونس، ونحظى بنفس التضامن من طرف أرباب المقاهي والمطاعم كالذي شاهدناه في ميدان التحرير، ونستحضر في كل لحظة الإصرار على النضال الذي عبر عنه رفاقنا في تونس ومصر".
لكن هذا الاستحضار للربيع العربي بات يقلق اليمين الإسباني، إذ لجأ بعض أنصار اليمين إلى وسائل الإعلام لتشويه صورة المتظاهرين ووصفهم باليساريين المتطرفين وحلفاء تنظيم إيتا في إقليم الباسك.
أما الشباب الثائر فلم تثنه هذه المحاولات عن مواصلة الاحتجاج "لأنهم سئموا من الاضطرار إلى الاختيار بين السيئ والأسوأ" كما يصرخ أحد المحتجين، في حين يصرون على أن مطالبهم ليست سوى تطبيق ما أسموه الديمقراطية الحقيقية.