أدريان كويمانس* حين جئت إلى الخرطوم عام 2003 كانت الأوضاع في السودان تبدو هادئة. المساعدات التنموية المنتظمة تم وقفها على خلفية انتهاكات حقوق الإنسان. كانت كينيا هي من تقدم المساعدات الإنسانية، وكان علينا انتظار ما تسفر عنه مفاوضات السلام بين الخرطوم والحركة الشعبية في جنوب السودان.
لم يكن هناك الكثير لفعله في السفارات وحتى عدد العاملين فيها كان قليلاً. بالرغم من بعض المؤشرات فإن المجتمع الدولي لم يكن يدرك أن هناك كارثة إنسانية تحدث في إقليم دارفور. في ذلك الإقليم انتفضت القبائل الإفريقية التي تشعر بالاضطهاد. محاولات الحكومة المركزية الاستعانة بميليشيات الجنجاويد العربية لقمع الانتفاضة أدت إلى حدوث مجزرة.
استنفار
مع ذلك لم تكن الأجواء في الخرطوم تعطي شعوراً بالخطر، بالقياس بما عشته في العاصمة الأفغانية كابل. كانت العلاقات بين هولندا والسودان جيدة. لكن هذه العلاقات تغيرت في عام 2003، بعد أن اتضحت حقيقة ما جرى في دارفور. وجد المجتمع الدولي نفسه أمام مأزق: هل من الحكمة الدخول في مواجهة مع الخرطوم حول دارفور في وقت بدا فيه تحقيق السلام في جنوب السودان قريباً؟
لم يكن هناك خيار سوى استنفار الرأي العام الدولي ضد ممارسات الحكومة السودانية، ومحاولة ممارسة الضغوط على هذه الحكومة عبر اتصالات مباشرة. كنت وقتها منسقاً أوربياً أيضاً، وهو ما منحني مساحة أكبر للتحرك. وساعدني أيضا بشكل كبير، أن هولندا هي المانح الأكبر للسودان في قطاع المساعدات الإنسانية.
كانت المهمة الأولية التي كـُلفت بها من قبل الاتحاد الأوربي هي الطلب من الحكومة السودانية وقف أنشطة الجنجاويد فوراً، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى دارفور، والجلوس إلى طاولة المفاوضات مع متمردي الإقليم. أما هولندا فكانت تسعى إلى مواصلة الحوار مع السودان، ووقف دائرة العنف في دارفور. عمليا كان هذا يتطلب مني المتابعة الدقيقة للتطورات اليومية، والمبادرة باتخاذ خطوات عملية تجاه النظام في الخرطوم.
الرغبة والقدرة
كان اللاعب الأساسي في الفريق السوداني هو وزير الخارجية، مصطفى اسماعيل، شخص يتسم بالتهذيب العالي، وروح الفكاهة. كان منفتحاً لكل المواضيع، ويمكن الحديث معه حول كل شيء، بما في ذلك الأحداث في دارفور. لكن سرعان ما تبين أن الحكومة غير راغبة، وربما غير قادرة، على الوقوف بوجه الجنجاويد. في النهاية حصلنا على موافقة على أن تستخدم الأمم المتحدة جسراً جوياً لإيصال المساعدات الإنسانية.
كسفير كنت أجري اتصالات مع مسؤولين كبار، بمن فيهم صلاح قوش، الرئيس المخيف للشرطة السرية السودانية. كان لاعباً اساسياً في قضية دارفور، ولديه صلة وثيقة بميليشيات الجنجاويد. في الوقت نفسه فهو الرجل المسؤول عن التعاون الاستخباراتي مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي أيه)، لذلك كان يستقبل بانتظام في واشنطن. زرته أكثر من مرة، وغالبا ما كانت الأحاديث بيننا سطحية وعمومية. كان صلاح قوض يعرف الأسئلة التي أريد طرحها لكنه كان بارعاً في إغلاق الأبواب أمام أي نقاش.
ظهرت فائدة مثل هذه الاتصالات لاحقاً، حين اتتقل أربعة صحافيين هولنديين بتهمة التجسس أواخر 2004. كانت هذه التهمة عقوبتها الإعدام. دون جدوى طرقت باب وزير العدل عدة مرات. وفي النهاية لم يكن أمامي سوى الاتصال بصلاح قوش. بعد أن استمعت إلى خطاب هجائي حول سلوك الصحافيين، طلبت أن يكون هناك شيء من التساهل معهم بناءً على العلاقات الجيدة التي تربط البلدين. بعد يومين فقط كان الصحافيون قد استقلوا الطائرى عائدين إلى هولندا.
ضغوط كبيرة
أدت الضغوطات الدولية الكبيرة على الخرطوم جعلها في عام 2004 تضطر إلى القبول بدور للمجتمع الدولي في دارفور. تم عقد هدنة، وتقرر تكليف الاتحاد الأفريقي بالإشراف على الالتزام بالهدنة. مجلس الأمن من جانبه أصدر قراراً حول دارفور. وتم تعيين الوزير الهولندي السابق يان برونك مبعوثاً خاصاً للأمم المتحدة في السودان، لقيادة المساعي الدولية لإنهاء النزاع في دارفور، وتحسين أوضاع السكان المتضررين.
كنت، بصفتي سفيراً، قريباً جداً من اللقاءات الشهرية بين يان برونك ووزير الخارجية السوداني مصطفى اسماعيل حول دارفور. تمت زيادة المعونات الهولندية لإقليم دارفور، لتصل قيمتها إلى عشرات الملايين من اليورو، كما تم توسيع طاقم السفارة بشكل كبير لكي نتمكن من تنسيق الأعمال.
أدى التدخل الدولي في النزاع إلى نتائج ملحوظة، فقد انخفض عدد القتلى شهرياً، من 15000 قتيل إلى 400. رغم ذلك لا يمكننا القول بثقة ما إذا كان المجتمع الدولي محقاً حين أعطى الأولوية بادئ الأمر لمفاوضات السلام بين الشمال والجنوب.
ربما كان علينا أن نتخذ خطوات أكثر فعالية في المرحلة الأولى من النزاع. ولعل ما منعنا من تحقيق ذلك هو قلة العاملين آنذاك في سفارات الدول المؤثرة، والافتقار إلى المعرفة المعمقة بشؤون دارفور.
• أدريان كويمانس: القائم بالأعمال الهولندي في الخرطوم منذ 2003 ثم السفير منذ 2004. قبل ذلك كان رئيساً للبعثة الهولندية في كابل، ودبلوماسياً في بعثة هولندا الدائمة في الأمم المتحدة. تخصصه الأكاديمي الشؤون الإيرانية، وعمل في السلك الدبلوماسي في عدة أماكن في الشرق الأوسط، من بينها طهران. حالياً لديه مكتبه الخاص للاستشارات.